فصل: مطلب معجزات عيسى عليه السلام وقصة رفعه إلى السماء وعمل حوارييه من بعده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن قتيبة أرسل عيسى لثلاثين من عمره ودعا الناس إلى الله ثلاثين شهرا أو ثلاث سنين على قول وهب بن منبه، ثم رفع إلى السماء {وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)} كإبراهيم وبنيه لأنه من نسله {قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} وهذا على طريق التعجب لا شكا منها، كيف وقد رأت المعجزات في محرابها مما يشابه معجزات الأنبياء ومن ابنها كذلك، وإنما قالت ذلك لأن العادة مطردة عدم كون ولد بلا والد {قالَ كَذلِكِ الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ} مما هو خارق للعادة ابداعا منه فيحصل منك ولد وأنت عذراء كما جعل آدم من الطبن وخلق حواء منه و{إِذا قَضى} الإله القادر على كل شيء {أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)} بلا كلفة ولا زمن ولا واسطة، لأن أمره بتكوين ما يريده يكون بين هذين الحرفين فيولده منك بذلك {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} الذي سينزله عليه خاصة {وَرَسُولًا} يجعله ويرسله {إِلى بَنِي إسرائيل} خاصة وهو آخر نبي يرسل إليهم منهم وأول أنبيائهم يوسف عليه السلام ويقول لهم {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} دالة على صدقي ونبوتي وهي {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} أصوّر {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} مطموس العينين المولود أعمى {وَالْأَبْرَصَ} الذي في جلده وضح بياض شديد مكروه وهو عيب من العيوب الشرعية التي ترد بها لزوجه، وينتقل من الجدود إلى الأحقاد، وقد سماه الله سوءا في الآية 23 من سورة طه، لقبحه في البشر والبقرة منه {وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ} في بيوتكم دون معاينة وسماع به {وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} للأكل {إِنَّ فِي ذلِكَ} الخلق والإبراء والإحياءو الأخبار {لَآيَةً} عظيمة على صدق رسالتي {لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 49} بالله لذي أرسلني إليكم {وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} في التوراة من جواز العمل يوم السبت وأكل لحوم الإبل والشحوم وغيرها ورفع الآصار الثقيلة، راجع الآية الأخيرة من البقرة المارة تعلم ماهيتها، وهذا هو معنى النسخ، لأن الله بعث عيسى بشريعة أخف من شريعة موسى عليهما السلام لما رأى فيها أزلا من الصلاح لعباده في عصره، وجعل نهايتها في عصر عيسى لتلك الغاية، كما هو مدون في لوحه العظيم، وعلى هذا ينطبق قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} كما أوضحناه في الآية 107 من البقرة المارة.
واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية 81 من هذه الصورة، واعلم أن كلمة إصر لا توجد إلا آخر البقرة وفي الآية 81 من هذه الصورة، والآية 156 من سورة الأعراف، وكلمة تدخرون لم تكرر في القرآن كله {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} واضحة {مِنْ رَبِّكُمْ} على كوني عبدا له ورسولا منه إليكم {فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ (50)} لما أدعوكم إليه وهو أن تعترفوا وتقولوا: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وحده أيها الناس ولا تشركوا به شيئا كما دعت الرسل قبلي أقوامها إلى هذا، وفيه براءة له عليه السلام مما ينسب إليه من وقد نجران وغيرهم القائلين بأنه ابن الله أو أنه الإله أو جزء من الإلهية مما هو بهت وزور عليه وعلى ربه القائل لكم أيها الناس {هذا} للذي أدعوكم إليه هو {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} لا يتعداه إلا كافر.

.مطلب معجزات عيسى عليه السلام وقصة رفعه إلى السماء وعمل حوارييه من بعده:

وإنما خص الله تعالى عيسى في هذه المعجزات لأن الغالب المرغوب في زمانه الطب، فالرجل البارع فيه معتبر عندهم فجعل الله معجزته من جنس ما يرغبون ولكن ما يعجز عنه البشر لأنهم مما برعوا في الطب لا يستطيعون إبراء الأكمه والأبرص بمجرد اللمس دون عقاقير فضلا عن إحياء الموتى، لأنه ليس في طوق البشر، وأنه عليه السلام لما ادعى النبوة تعنت عليه بنو إسرائيل وطلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا والخفاش من أكمل الطير خلقا لأنه يطير بلا ريش وله أسنان وللأنثى ثديان، ويحيض كما تحيض النساء، وتطير بالليل وتكمن بالنهار، وتختفي في البرد وتظهر في الحر، ولها خصائص عجيبة، راجع تفصيلها في كتاب حياة الحيوان للأستاذ الدميري، فأخذ عليه السلام طينة وصورها في الظاهر مثلها وقال لها كوني بإذن الله كما يريدون، ونفخ فيها فكانت حالا وطارت أمامهم، ولم يؤمنوا، ثم كلفوه إحياء العازر ابن العجوز بعد ثلاثة أيام، فأحياه ولم يؤمنوا، ثم أحيا لهم بطلبهم بنت العاشر وبقيا حيين وولد لهما بعد إحيائهما، وأظهر معجزات أخرى كثيرة من تكثير الطعام وإحياء سام بن نوح عليه السلام فقام أمامهم من قبره وقال هل قامت القيامة؟ فقال له عيسى له ولكن دعوتك بالاسم الأعظم ليؤمن قومي، ثم قال له مت، قال له على أن يعيذني الله من سكرات الموت، قال نعم فمات.
وكان وهو صغير يلعب مع الصبيان ويخبرهم بما يفعل أهلهم ويقول لهم إن أكل أهلكم اليوم كذا وكذا وقد رفعوا لكم منه، فينطلقون فيجدون كما قال، ويقولون لأهلهم أخبرنا عيسى بن مريم بذلك، فصاروا يمنعون صبيانهم عن الاختلاط معه بداعي أنه ساحر، ومن هذا القبيل معجزة يوسف عليه السلام، راجع الآية 37 من سورته، قالوا وطرق مرة الباب على دار فيها صبيان فقالوا لا أحد فيها، قال وما هؤلاء؟ قالوا خنازير، قال فليكن كذلك، فمسخوا كلهم خنازير، فهم بنوا إسرائيل ليقتلوه، فهربت به أمه إلى مصر، وإلى هذه الرحلة يشير قوله تعالى: {وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} الآية 50 من سورة المؤمنون كما بيناه في الآية 24 من سورة مريم، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل منى أن أمه ويوسف النجار أخذاه إلى مصر خوفا عليه من الملك فيرودس أن يقتله، وهذه المعجزات دليل قاطع على نبوته عليه السّلام، فمن أنكر أحدها فهو كافر لأنه أنكر القرآن، ولا يقال إن النجم والكاهن يخبران بالغيب، لأن المنجم يستعين علي ما يخبر به واسطة سير الكواكب وامتزاجاتها وحساب الرمل وغيره وقد يخطئ كثيرا، والكاهن يستعين برائد من الجن ويخطئ كثيرا أيضا، والمنوم المغناطيسي يستعين بالواسطة وقراءة الأفكار وغيرها من الشعوذة ويخطئ كثيرا.
وقد لا يقدرون أن يخبروا بشيء إذا اختلط عليهم الأمر وفيما لم يحدث المخاطب نفسه بما يسأل عنه وفيما إذا سئل في شيء لا يعرفه، وقدمنا ما يتعلق بهذا في الآيات 20/ 23 و102 من سورتي الأنبياء والصافات.
وليعلم أن أخبار الأنبياء كلها حق وصدق، وبغير واسطة إذ لا واسطة لهم غير الوحي الإلهي الذي يتلقونه بواسطة الملك أو الإلهام الذي يلقى في قلوبهم من الله تعالى أو التكليم رأسا أو من وراء حجاب، كما فصلناه في الآية 51 من سورة الشورى.
وليعلم أيضا أن السرّ في خلق الكون بما فيه تعلق الإرادة الإلهية بوجوده، وان ارتباط الأسباب بالمسببات التي بلغو الناس فيها لا تأثير لها بنفسها من دون الله تعالى بل التأثير كله منحصر بقدرته، وما نراه من الارتباط في الظاهر لا يقيد سلطة الله ولا يمنع من تنفيذ إرادته، وإن تغيير الشرائع وخرق العادات وتعطيل الأسباب من الدلائل على كمال القدرة، لأن من يضع نظاما يقدر على تعديله، ويملك نقضه، وان ما يقع من التعديل والنسخ لبعض الأحكام هو في مصلحة البشر بما يوافق عصرهم ويلائم حالهم.
قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ} من اليهود {الْكُفْرَ} به رمحاولة قتله وحان وقت رفعه إلى ربه بإخبار الله تعالى إياه {قالَ} لأصحابه الملازمين له {مَنْ أَنْصارِي إِلَى الله} والوصول إلى طريقه وإعمار دينه ليقوم بعدي بهدي الناس وإرشادهم على حسب تعاليمي التي تلقينها من ربي؟ {قالَ الْحَوارِيُّونَ} جمع حواري بمعنى صاحب {نَحْنُ أَنْصارُ الله} وجنوده لإعلاء كلمة الله لأنا {آمَنَّا بِالله} وحده واتبعناك بما جئت به من لدنه {وَاشْهَدْ} علينا أيها الرسول المتولي {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)} للّه منقادون لأوامر وممتنعون عن نواهيه، وأنا سنسير بسيرتك وننشر تعاليمك للناس ونبذل جهدنا في نصحهم ما استطعنا.
وقالوا: {رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ} من أحكام التوراة والإنجيل {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} الذي أرسلته إلينا وهو عيسى، لأن الألف واللام للعهد ولا معهود هنا غيره إذ ذاك {فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} لك بالواحدية والوحدانية ولرسولك بالتصديق والانقياد {وَمَكَرُوا} اليهود أي اختالوا للقبض عليه وقتله تخلصا منه وحبا ببقاء الرياسة لهم وهو لا يريدها عليه السلام وإنما يريد صلاحهم {وَمَكَرَ الله} جازاهم على مكرهم حين دلهم عليه حواريه المنافق يهوذا الأسخريوطي ليغتالوه في البيت الذي هو فيه مع بقية أصحابه، فأوقع شبهه على المنافق المذكور ورفعه من بينهم إلى السماء، فألقوا القبض على يهوذا وأوثقوه على ظن منهم أنه هو المسيح، فصار يصيح أنا الذي دللتكم عليه أنا لست المعلم يعني عيسى، إذ كانوا يسمونه معلما ولات حين مناص، لأن الله تعالى إذا عمل شيئا كان عمله كاملا من كل وجه، ولذلك فإن كل من رآه قال هذا عيسى بعينه حتى حوارييه وحتى أمه، ولذلك صاروا يبكون عليه {وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)} المجازين أهل الحيل، وبهذا الأخذ والرد بين اليهود إذ يقول لهم أنا لست بعيسى وهم يلكمونه ويقولون له أنت هو، تخلص بقية حوارييه من القبض عليهم، إذ كانت نيتهم اغتيال عيسى وحوارييه لأمر أراده الله وليتم مراده ببث دعوته من بعده من قبلهم.
واعلم أن إضافة المكر إلى الله بمعناه لا يجوز، لذلك أول بالجراء، وكذلك الخداع والاستهزاء لأنها صفات مذمومة في الخلق فلا يليق أن يوصف بها الخالق المنزه عن سمات خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وخلاصة القصة أن الله تعالى لما أرسل عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليدعوهم إليه ويتركوا ما أحدثوا من البدع ويرجعوا إلى حكم التوراة وما وعدهم به من التخفيف لبعض أحكامها وأظهر على يده المعجزات المذكورات وغيرها كقلب الماء خمرا والمشي على الماء مما ذكر في الإنجيل ومما لم يذكر، لأنه لم يشتمل على سيرته جميعها وكان في بداية أمره مر بجماعة يصطادون سمكا فقال لهم اتبعوني لنصطاد الناس فقال له أحدهم شمعون ائتنا بآية، فدعا الله فاجتمع في الشبكة سمك كثير حتى كادت تتمزق منه، فاستغاثوا بأصحاب السفينة الأخرى وملأوها، فآمنوا به واتبعوا وصار يدعو الناس وإياهم إلى الله، فاشتد ذلك على اليهود، لأنهم عرفوه أنه المسيح البشر به في التوراة، وأنه الذي يبطل دينهم ويحوله إلى أحسن، فخافوا ذهاب الرياسة منهم، فقر رأيهم على قتله، وخدعوا ملكهم بأن عيسى يريد أخذ الملك منه، وأنه على خلاف ما جاء في التوراة، وأنه ظهرت منه أقوال توجب الكفر وحاشاه من ذلك، فوافقهم على ما يريدون، فدبروا المكيدة بينهم على أن يتسلطوا عليه بواسطة أحد أتباعه، فأغروا المنافق يهوذا الأسخريوطي بثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ليلا بحيث لا يكون إلا هو وأصحابه الأحد عشر، وقد اطلعه الله على ذلك فاجتمع بأصحابه، وكان الخبيث معهم يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فوعظهم عيسى عليه السلام وأرشدهم وداعبهم وقال يا أصفيائي ويا خاصتي إن اليهود أجمعت على قتلي، وإن الله سيرفعني إلى السماء ويلقي شبهي على أحدكم الذي سيكفر بي ويبيعني بدراهم بسيرة، فدهشوا قوله ولم يعلم الأحد عشر من هذا الكافر الذي يجرز على ذلك، ولم يفهم الخبيث يهوذا المراد من إلقاء الشبه ليتم مراد الله، وذات ليلة لم يكن فيها أحد غير المسيح اغتنم الخبيث الفرصة فذهب وأخبر اليهود وجاء معهم فأدخلهم عليه، وعند ما أشار إليهم أنه هو هذا رفعه الله تعالى وألقى شبهه عليه، فأمسكوه وصاروا يلكمونه ويوثقونه فصار يصيح إني لست هو أنا الذي دللتكم عليه على الوجه المار آنفا وذلك قوله تعالى: {إِذْ قالَ الله يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} مستوفي أجلك الأول من الدنيا إذ انتهت مدة لبثك في الأرض وقابضك من غير موت.
ولئلا يصل أعداؤك إليك، ومنتقم لك من عدوك المنافق بالصلب والإهانة، وهذا هو الصواب إذ لو كان المراد الموت كما زعم العير: قال تعالى: {وَرافِعُكَ إِلَيَّ} ومجلسك في سمائي مع ملائكتي، وعليه ما جاء في التفسير رافعك الآن ومتوفيك بعد، لأن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وصار عليه السلام بعد الرفع إنسيا ملكيا وأرضيا سماويا {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بك من أن يدنوا حضرتك الطاهرة مما أرادوا بك من القتل والصلب والهوان {وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وآمنوا بك.
إيمانا خالصا {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بك بالعز والنصر والغلبة والحجة الظاهرة {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} حتى انقضاء آجالهم في الدنيا والبرزخ {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أنتم وهم في الآخرة ومن اتبعك مخلصا ومن كفر بك {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يوم الجزاء {فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} من الحق الناصع.
قالوا ولما دخلوا عليه ليقضوه أظلمت الأرض والسماء فظن ذروه أن ذلك من أجل صلبه، ولهذا ذكروا هذا السبب في الأناجيل الأربعة، قالوا ولما صلب المنافق الذي شبه به ذهبت إليه أمه ومريم المجدلية التي أبرأها من الجنون وصارتا تبكيان عليه، فجاءهما عيسى عليه السلام إذ نزل به جبريل من السماء وقال لهما إني لم أصلب وان ربي رفعني إلى السماء ولم يعلم اليهود أن الله ألقى شبهي على يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليّ، وانه هو الذي صلب وعذب وأهين، وان الله ربي حفظني من كيدهم وجازاه بذلك، وجمع الحواريين وأخبرهم بذلك وأمرهم أن يبثوا دعوته في الأرض وخولهم شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص، وقد تحققوا ذلك كله لأنهم لم يروا يهوذا حين القبض ولا بعد الصلب بما أقنعهم أنه هو المصلوب، وجعلهم رسلا من بعده إلى الناس، ومتّعهم بوصاياه القيمة كما أشرنا إلى هذا في الآية 13 من سورة يس، ومن أراد التفصيل فليراجع إنجيل برنابا عليه السلام ففيه كل شيء يتعلق بهذا وغيره من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أصح الأناجيل وموافق لما جاء في القرآن العظيم.
وفي قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ} إشارة إلى رفع روحه وجسده صلّى الله عليه وسلم ليلة القبض عليه، وردّ لمن قال إن الرفع كان للاهوتية (أي روحه) دون الناسوتية (أي جسده) وفيها إشارة أخرى إلى أنه عليه السلام سينزل إلى الأرض، لأن المعنى رافعك إلى الآن، ومنزلك إلى الأرض ومتوفيك فيها بعد على اعتبار التقديم والتأخير في كون الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق بهذا في الآية 66 من سورة الزخرف.
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيا} بالذل والعار والتشتيت {وَالْآخِرَةِ} بعذاب الله الشديد والتبكيت {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)} فيها يحولون دون ما يحل بهم {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} في الدنيا بالحياء الطيبة وبالآخرة بالجنة ونعيمها جزاء إيمانهم وتصديقهم وتحملهم الأذى في سبيل الله، وان من لم يفعل الصالحات ويقتدي بنبيه فقد ظلم نفسه {وَالله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} المتجاوزين حدوده {ذلِكَ} الذي ذكرناه لك يا سيد الرسل من خبر عيسى وأمه ورفعه وإهلاك عدوه {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} لتخبر به قومك لأنه {مِنَ الْآياتِ} الدالة على صدقك {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)} المدون في لوحنا المحفوظ المحكم الذي لا يتطرق إليه الباطل ولا يأتيه الخلل، فذكر به أمتك وخاصة وقد نجران وقل لهم لا تعجبوا من كيفية خلق عيسى بلا أب لأن قدرة الله صالحة لأكثر من ذلك، وقل لهم لينتبهوا {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله} من جهة الخلق {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} بلا أب ولا أم وجعله بشرا سويا من لحم ودم وعظام وهو أعظم من خلق عيسى وأبلغ في القدرة من خلق حواء أيضا، لأن التراب ليس فيه مادة من تلك المواد فيكون خلقه أعجب وأغرب من خلق عيسى وحواء لأنهما من مادة فيها تلك المواد المجانسة لمادته، فلا تستبعدوا على الله شيئا أيها الناس ولا ترتابوا في خلقه على تلك الصورة {ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} أي فكان كما كان، وكذلك خلق عيسى وحواء بكلمة كن فكانا كما أراد الله.
واعلم يا سيد الرسل أن الذي تلوناه عليك في هذا وغيره هو {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (60) في هذا التمثيل أيها السامع والناقل، لأن الخطاب فيه عام لكل من يتأتى منه السمع والخطاب، وإن كان لحضرة الرسول لأن المراد به غيره وساحته بريئة من الامتراء والشك والتردد في كل ما جاء به عن ربه، فيفهم مما ذكر في هذه الآيات أن الدعوة إلى الله لابد لها من أنصار كاملي العقيدة مخلصين مطيعين موادين، وأن الإيمان المجرد لا يكفي ما لم يقترن بعمل صالح.
وتشير إلى أن تدبير الله لعباده فوق كل تدبير، فإذا شمل عبدا برعايته حفظه من كل كيد، وأنّ الوفاة في هذه الآية ليست بمعنى الموت، قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} الآية 42 من سورة الزمر، وهذا فارق بين الموت والوفاة.
والحكم الشرعي: وجوب الاعتقاد بأن خلق عيسى بن مريم بمجرد كلمة كن، وإن رفعه للسماء حيا حق لا مرية فيه، وأن كل جدل في هذا الموضوع يؤدي إلى خلاف هذا فهو كفر.
قال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} في عيسى من جهة خلقه ورفعه {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأنه كما ذكره الله لك يا سيد الرسل {فَقُلْ تَعالَوْا} أيها المجادلون المخاصمون بذلك {نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نحن وأنتم بأن نتضرع إلى الله ونجهد أنفسنا بالدعاء {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكاذِبِينَ (61)} منا ومنكم.